فاتن محمد حسين

الحارة المكاوية عشق الانتماء

مكيون
مكيون

الاثنين - 19 ديسمبر 2016

Mon - 19 Dec 2016

لقد صادف انطلاق مهرجان (الحارة المكاوية) إجازة منتصف الفصل الدراسي الأول 10/‏2/‏1438هـ، وهو وقت أشد ما يكون فيه الطلاب والطالبات وأسرهم بحاجة إلى مكان للترويح عن النفس، فجاءت هذه الفعالية في أجواء مفعمة بالتراث الثقافي المكي الذي اندثر بين طيات الزمن ومؤشرات التطوير والتغيير لبنية مكة المكرمة، حتى أصبح عبق الماضي جزءا من ذكريات أو ربما أحلام!



وحقيقة لم أكن لأضيع فرصة الذهاب إلى مثل هذا المكان، وبالمناسبة فقد اعترض البعض على التسمية، وكان الأجدر أن تكون (الحارة المكية)، ولكن لأن الحدث عن الماضي وتراث مكة المكرمة كانت اللهجة العامية (المكاوية) حاضرة، وهي اللهجة التي بها كثير من المصطلحات التي لا يفهمها إلا بعض أهل الحجاز، مما حدا ببعض الكتاب لأن يفردوا لها مؤلفات، ومن ذلك ما ألفه الكاتب الراحل محمد صادق دياب - رحمه الله تعالى - في كتابه (المفردات العامية في مدينة جدة)، وهي من المفردات المكية لأن كثيرا من أهالي مكة المكرمة انتقلوا إلى جدة وانصهروا في نسيجها الاجتماعي وأثروا في مفرداتها العامية، ومن ذلك كلمات مثل: (البزبوز، الصُرافة، البحبحة، البكرج، الزُقاق..)، وآلاف المفردات العامية هي جزء من التراث المكي المشتق أصلا من لغات أخرى كالتركية والقبطية ولغات أخرى عالمية، فقد شكلت تلك الجماعات عبر التاريخ الطويل النسيج الاجتماعي المكي الذي يتسم بالبساطة، والطيبة المفرطة، والتواضع، وحب الخير، وعشق الانتماء لهذه البقعة الطاهرة المقدسة.



وليس أدل على تلك الصفات عن أهالي مكة من أن من قام وخطط لهذا المهرجان وتلك النشاطات الكرنفالية ودعمها ماليا هو أحد أبناء مكة البررة المطوف عادل حافظ، وهذا والله لشرف لكل أبناء الطوافة أن يكون هذا الرجل هو من يدخل الفرحة على أبناء مكة لأكثر من شهر من الزمان، مع أن هناك كثيرين من رجال الأعمال ممن يفوقونه بأضعاف مضاعفة من الجاه والمال، ولكنه عشق الانتماء لهذه المكونات الثقافية المكية.



لقد كانت هناك أهداف سامية لهذا المهرجان التراثي، فلم يكن الترفيه وحده الهدف، بل تعريف الأجيال الجديدة بتراث الآباء والأجداد من خلال إبراز أنماط حياة الإنسان المكي، والموروثات الثقافية في الحياة الاجتماعية، والتقاليد الإسلامية، والعلاقات الأسرية التي تربط أفراد الأسرة بتلك المكونات الحضارية.

لقد سرت في طرقات الحارة المكاوية ومررت ببيت جدي محمود، وطلعت مبيت عمتي منة، وشاهدت صندوقها السيسم الذي يحوي مقتنياتها الجميلة من المحرمة المدورة والصيدرية والكورته، وبعض المذهبات والأخراص والبناجر..، وجلست عند نصبة شاهي عمتي خديجة وبجوارها السموار والفناجيل الصغيرة ثم مشيت إلى مركاز عمي هاشم محمد حسين، حيث يجتمع رجالات الحارة من أهل العلم والفضل. واشتريت الخبز من فرن عم هاشم بدر، حيث رائحة الخبز تعبق في كل أرجاء المسفلة، وقابلت عم عبده السقا الذي يحضر لنا الماء بالزفة لملء الأزيار والحنفية و.. و..، نعم ثارت الذكريات في نفسي فترقرقت دموع طفلة عاشت تلك المكونات الثقافية التي أصبحت في طي النسيان.



كم هي جديرة تلك الأماكن وتلك الأحداث بأن نؤطرها في حاضرة الزمن، ونحافظ على مكنوناتها ومكوناتها ودررها الثقافية، فجميع دول العالم تفخر بتراثها الحضاري وتجعله قبلة للسياح والزائرين، مما يدر عليها الملايين من الدولارات. وهذا ما نريده ويتلاءم مع رؤية المملكة 2030 بالاعتماد على السياحة للأماكن التاريخية والآثار، فهي حضارة الأمة الخالدة ومورد لا ينضب معينه.



وكم هو رائع ذلك الإقبال الكبير على الحارة المكاوية حتى بلغ عدد الزائرين لها أكثر من مئة ألف زائر خلال شهر. بل زارها كبار الشخصيات من رجال أعمال، وموظفي الدولة، ودبلوماسيين، مما يدل على نجاح هذه الفعالية على كل المستويات الاجتماعية.



وما نأمله هو استمرارية هذا الحدث خلال الإجازات والمواسم، وأن تكون هناك خطة مبكرة للفعاليات، حيث إن مشاركة بعض الجهات كانت أقل من متواضعة مع أن لديها إمكانات أكبر، كما أن مشاركة الأسر المنتجة تحتاج إلى تنظيم أكبر، وتحسين لجودة الإنتاج، وكذلك الفعاليات الثقافية للمسرح كانت ارتجالية في بعضها ما عدا القليل منها مما كان مخططا له.



بل نتمنى أن تكون هناك مشاركة أكبر من كل رجال الأعمال الذين يدعون حب مكة بينما مرزابهم للخارج!! بالدعم المالي، حيث هذا المشروع يكلف الكثير ويتطلب جهودا مضاعفة، وربما يتحول إلى مشروع سياحي استثماري كبير.



شكرا لكل من أسهم في هذا الحدث الاستثنائي المكاوي، وشكر خاص لسعادة المطوف عادل حافظ، ولأمانة العاصمة المقدسة لإشرافها على هذه الفعالية، ولكل الجهات الأخرى الداعمة، بل قبل هؤلاء جميعا شكرا لأمير منطقة مكة المكرمة مستشار خادم الحرمين الشريفين خالد الفيصل على متابعته الحثيثة وإشرافه لجعل هذا الحدث الفريد متحفا كرنفاليا لأم القرى؛ التاريخ والحضارة والتراث والفن المكي.