عمر المضواحي: صحفي الصحفيين وأيقونة المحبين

الاثنين - 19 ديسمبر 2016

Mon - 19 Dec 2016

رن هاتف عمر المضواحي في مثل هذا الشهر في السنوات القليلة الأولى من القرن الحالي، وهو يهم بمغادرة مكتبه مساء بعدما انتهى من إرسال مادته الصحفية للمجلة الدولية التي كان يعمل بها آنذاك.



كان رئيس تحرير «المجلة» هو الطرف الآخر من المكالمة، وبعدما أثنى على المادة المرسلة من عمر أبلغه بتجهيز نفسه للسفر قريبا إلى لندن لزيارة المركز الرئيسي. أحس عمر وقتها أن هذه الدعوة ليست إلا تتويجا لعمله في المجلة، خاصة وأن جل موضوعاته وإن لم تكن سياسية – والمجلة سياسية – إلا أنها كانت تحظى بإشارة في الصفحة الرئيسية للمجلة.



انهمك عمر وقتها في شراء ملابس تتناسب مع شتاء لندن البارد، لكن يوما بعد يوم واتصالا بعد اتصال لم يتحدث معه أحد عن الدعوة إلى لندن، وهو في المقابل لم يتكلف عناء التذكير، ومن يعرف عمر ويعرف خجله يتأكد أن ما فعله وقتها هو ما يفعله طوال الوقت فهو لا يطلب أبدا. ولم يكن إلا قليلا وغادر رئيس تحرير «المجلة» منصبه بسبب مادة صحفية لو نشرت خلال العشر سنوات الماضية لما أثارت أي ردة فعل، لكن في وقتها عملت الكثير الكثير. بقيت علاقة عمر برئيس تحرير المجلة قوية متصلة رغم أن الكثيرين يحذفون رؤساءهم القدماء فور ابتعادهم عن الكرسي. أكثر من ذلك كان المضواحي لا يترك – وهو محق- فرصة إلا ويشيد بصديقه «العزيز» رئيس التحرير السابق.



انطوت قبيل منتصف 2005 بقليل صحيفة «المجلة»، وبدأ المضواحي مرحلة جديدة من حياته الصحفية كمدير مكتب لجريدة عملاقة، وهذه التجربة الجديدة وما تلاها من التجارب الصحفية هي فيما يبدو سبب ابتعاد عمر عن مواده المفضلة ومطولاته الشيقة. فهو ابتداء من ذلك التاريخ كان لا يجد الكثير من الوقت لعمل مواده الصحفية «الرقيقة المذهلة»، فقد انشغل بإدارة الصحفيين



والصحفيين الذين هم تحت إدارته، وهو الأمر الذي خلق له بعضا من المتاعب، فهو أمين دقيق فضلا عن أنه قليل الإعجاب بالمواد الصحفية الناقصة.

لم تكن هذه المعضلة من صنع عمر، فتاريخه الصحفي يؤهله لمناصب في الإدارة الصحفية وهو يستحق، وليست مشكلة رؤساء التحرير الذين عمل المضواحي في صحفهم، ويبدو أنها مشكلة قصر نظر في الصحفة العربية ككل، فمثل عمر كان يجب ألا يقيد بقيود الإدارة الصحفية لكن ذلك الذي حدث.

يستغرب من تعرفوا على الصحفي الراحل عمر المضواحي خلال السنوات القليلة الماضية من القول إن نجومية عمر وتألقه الصحفي بدآ في النصف الثاني من العقد الأخير للقرن الماضي، ووصلت عنفوانها في السنوات الأولى من القرن الحالي، وبدأت تقل بحكم المهام الإدارية ابتداء من 2005 لكن تلك الفترة لم تكن إلا استثناء، فقد توهج المضواحي إبان عمله الأخير في صحيفة مكة أيما توهج لأن رئيس التحرير لم يكن يطلب من عمر إلا مواد صحفية، وهكذا عادت نجوميته الصحفية التي أخفتها التكليفات الإدارية.



زار أحد الأصدقاء المضواحي إبان عمله في «المجلة» فوجد شابا صغيرا نحيلا يجلس في المكتب الخارجي لمكتب عمر، فسأله الزائر من هذا، فرد عمر هذا علي العلياني شاب صغير صحيح، لكنه صحفي طموح، وسيكون شيئا في المستقبل، فرد الزائر لكنه خجول جدا فتمتم عمر سترى. في تلك السنوات بدأت الإرهاصات الأولى لتحول الصحفيين السعوديين الورقيين إلى صحفيين تلفزيونيين فأتى يوما الشاب علي العلياني يبلغ المضواحي بأنه حصل على فرصة للعمل في محطة «إل بي سي اللبنانية» بعد تجربة قصيرة لم تكتمل في العربية، شد عمر على يد العلياني وتمنى له التوفيق. قابل المضواحي صديقه الذي زاره ورأى علي عنده وقال له سيكون العلياني قريبا نجما من نجوم السعودية وأراهنك على ذلك، ولم تكن إلا سنوات قليلة جدا وأصبح نجما كما توقع عمر.



في حقبة أقدم من حقبة «المجلة» كان المضواحي صحفيا بارعا في «المسلمون» وكان هناك شاب صغير بالكاد وصل مرحلة الشباب يعمل في الجريدة الأسبوعية، اسمه مفيد النويصر كان هذا الشاب يعمل كل شيء، وعمل فيما بعد تقريبا في جل الأعمال الصحفية ابتداء من تركيب صفحات الجرائد والمجلات إلى إصدار الروايات، مضافا إلى ذلك إدارة إحدى الجرائد التي «وئدت» سريعا. كان عمر يطلق منذ باكر على مفيد النويصر عبارة «مجد دؤوب ذا هدف» ومن يعرف مفيد يتأكد أن المضواحي أصاب في وصفه «كبد الحقيقة وقلبها». ولأن «الحلو ما يكمل» كما يقال في الأمثال الشعبية لم يشاهد المضواحي مفيد النويصر وهو يصل إلى أعلى قمم نجاحه بعدما قدم برنامج «من الصفر» على شاشة إم بي سي بنجاح يقل الوصول إليه بسهولة رمضان الماضي فقد توفي عمر.



قبيل انتصاف العام 2007 بقليل «طرق» جوال صديق مشترك بين المضواحي ورئيس تحرير الصحفية التي كان يعمل بها اتصال نادر قال فيه الأخير «أنت تعرف إني أحب عمر وأريد منك أن تتحدث معه بخصوص العدول عن استقالته التي قدمها لي». اتصل الصديق الذي تلقى الاتصال من فوره بعمر مطالبا باجتماع عاجل في المقهى الذي يشربان فيه القهوة التركي والسموار على التوالي.

بدأ الصديق يتحدث عن الاتصال الذي «طرق» هاتفه وعمر مثنيا قدميه على بعضهما ممسكا بطرفي أصبعيه على شعيرات لحيته يفركهما ودخان سيجارته يطير أمام نظارته منصتا بشدة. بعد أن انتهى الصديق من كلامه الطويل رد عمر بحركة واحدة إذ رفع رأسه إلى الأعلى بحركة سريعة وأصدر صوتا

خفضيا يعني لا.



لم تكن المفاجأة في أن عمر مضى في استقالته، لكنه كتب بعدها مادة عجيبة أسماها لسان الاستقالة فيها يقول «ربما تكون هذه الكلمات آخر ما أسطره في عالمي الصغير (مهنة الصحافة) قبل أيام اختزلت 17 عاما أمضيتها في حرث بحر الحبر وغزل الأشرعة الورقية على جمل قصيرة محشوة بحروف صغيرة حددت مسار انطلاقتها بدقة واعتداد». في لسان الاستقالة قال عمر «ستجد حتما أن الجميع يكنون كامل الولاء للقمة العيش، ويتخلون عن مبادئهم أمام هذه الحقيقة المطلقة، ومن بينهم من سيقول كلمة حق بعد فوات الأوان في الوقت الذي لن تكون أبدا في حاجة لها».



وفي الوقت الذي لم تبدأ فيه الأسئلة الساخنة حول أين ستذهب، فوجئ أصدقاء عمر وزملاء مهنته أن لسان الاستقالة نشرت في موقع «العربية نت» وأحدثت وقتها ردات فعل كثيرة وربما يكون الصحفي فراج إسماعيل الذي كان يعمل وقتها في «العربية نت» هو من أخذ المادة من المضواحي ونشرها. وفراج إسماعيل صحفي مصري قدير له بالغ الأثر في حياة عمر المهنية، فالمضواحي لطالما كان يقول إن فراج أستاذه. وصديق المضواحي الذي كان يناكفه ليل نهار كان يقول له يا عمر أنت أحسن من فراج. فكان عمر يرد نفس الرد الذي كان يرده كل مرة «أيش عرفك أنت».



وباستثناء فراج إسماعيل وأستاذ الإعلام في جامعة الملك عبدالعزيز محمد عبدالحكم الذي درس عمر أثناء تحصيله العلمي، لم يسمع أصدقاء المضواحي أسماء غيرهما كأساتذة له، وإن كان عندما يأتي الحديث عن أحد الصحفيين لا يتردد عمر في القول إنه أستاذ. ورغم حرفية ومهنية المضواحي التي لا تخطئهما العين إلا أن كثيرين لا يعرفون أن عمر بقي لسنتين تزيدان أو تنقصان بدون عمل. فهو كان يرفض دائما تسويق نفسه فضلا عن أنه لم يكن ليحصل على درجة ممتاز في العلاقات العامة حينما يتعلق الأمر بتحقيق مكاسب شخصية. حدث ذلك بوضوح في منتصف 2007 عندما اتصل به رئيس تحرير إحدى الصحف السعودية عارضا عليه الانضمام لجريدته. وافق عمر من فوره دون أن يسأل عن المنصب أو المقابل المادي لأنه كان معجبا بأخلاق من هاتفه. ولأن «سوء الظن من حسن الفطن» والأولى خصلة لم تكن لدى المضواحي فوجئ بأن المقابل المادي للوظيفة الجديدة لا يرقى لاسمه، ورغم ذلك لم يتحدث عن الأمر مع صديقه رئيس التحرير حتى آخر يوم في عمره. أكثر من ذلك كان رئيس التحرير «المذكور» ولا يزال شخصية جدلية في الأوساط الإعلامية وغيرها لكن حينما يتم الحديث عنه بسوء ينبري المضواحي للدفاع عنه بجملة واحدة «لاتؤذوني في صاحبي».



أواخر 2010 انضم المضواحي إلى تويتر وفيه وجد الكثير الكثير من المعجبين وإن شئت قل المنبهرين بكتاباته التي تلامس شغاف القلوب وتحرك القشعريرة في الأجساد حينما يتعلق الأمر بمكة المكرمة والمدينة المنورة. رويدا رويدا أصبح لدى المضواحي جمهور جله من الصحفيين والكتاب ومحبي المدينة المنورة ومكة المكرمة، غالبيتهم لهم نفس الرأي أو المخاوف من «بلدوزر الاستثمار المفرط» في بيت الله ومهاجر نبيه عليه الصلاة والسلام. بيد أن تلك المخاوف و»الله يشهد» أنها مخاوف محب - ليس له مأرب - جلبت له الكثير من المتاعب عبر أشخاص معارضين لتوجهه. كان سلاحهم السباب والشتائم وقلة الأدب دون مناقشة الأفكار والآراء. ولأن المضواحي لا تنقصه الحجة ولا استخدام الكلمة اضطر في الفترات الأخيرة إلى استخدام مدفعيته الثقيلة، وكانت ثقيلة بحق وحسابه يشهد بذلك. في أواخر أيامه قال عمر لصديقه سأبلغك بسر «لقد شكتني الجهة الفلانية للشخص الفلاني الذي رفع الأمر ثم وصل للجهة الفلانية التي أرسلته للمكان الفلاني» انتفض الصديق خوفا وقال له: ماذا ستفعل؟ رد المضواحي لن أفعل شيئا سأستمر كما أنا.



موقف عمر الأخير يلخص حياته القصيرة كلها، فهو لم يغير رأيه ولم يبدل موقفه، متحيز حينما يتعلق الأمر بأسرته «زوجته الفاضلة وأبنائه عبدالمحسن ورزان ومناف ومنى وسدن وأخيه عبدالعزيز وأخته وخالته الكبيرة». متحيز حينما يتعلق الأمر بمكة والمدينة، متحيز حينما يتعلق الأمر بالصحافة. متحيزا لأصدقائه، لكنه لم يكن كذلك حينما يتعلق الأمر بالمرض.. رحمك الله يا عمر فقد كنت ممن لا يجود الزمان كثيرا بمثلهم.