منى عبدالفتاح

لو يدركنا «صلاح الدين»

الأربعاء - 09 نوفمبر 2016

Wed - 09 Nov 2016

كان المساء قريبا في انحداره على «قلعة صلاح الدين»، مكان الحفل الذي ننتظره على مسرح الأوبرا. بدأت الجموع تتقاطر وتأخذ مكانها المحدد في الساحة الرئيسة لحضور أحد مهرجانات القلعة السنوية بالقاهرة.



كان ذلك منذ سبع سنوات خلون، والأزمة السياسية في مصر مكتومة، ولم يكن يشغل البال غير الأحداث الأبرز على الساحة العربية، وانفتاح كوة النار في كل جزء منها، وبعض جموح تفكير في أنه لو كان صاحب هذه القلعة حيا لما نشدنا المعجزات لحل أزماتنا. وهذه الأحداث هي ما استدعت تلك الذكرى، وما استرعت مناجاة صلاح الدين والدنيا من مرقده ليقوم بواجبنا نيابة عنا. ومثلما قام من قبل بالقضاء على أمير حلب «كمشتكين»، بفضل حكمته وفطنته التي مكنته من تحرير الشام من قبضته، يمكنه أن يفعل الآن. ليس كما تحصد الحشود العربية ومن خلفها الدولية من خيبات حتى عند القيام بمهام صغيرة كتوصيل الإغاثة، فكيف بعملية تحرير كاملة أو مواجهة محسومة مسبقا.



ما أحوجنا إلى «حطين» أخرى لتحرير قطاع غزة مثلما حرر صلاح الدين، مملكة القدس، فقد واجه وقتها حربا تم التعارف عليها تاريخيا كأحد الحروب الصليبية التي قامت ضد مسلمي الشام. كان هم القائد، قبل التفكير في الانتصار، هو العمل على توحيد المسلمين سواء كان بأساليب الإقناع أو القوة. ولم يقف في هذه المعارك على جنوده فقط وإنما فتح باب التطوع فقدم إليه من الموصل والشام والجزيرة من أهمته القضية فكانوا خير داعم لجيشه.



يكاد الرجوع بالخيال إلى ذاك التاريخ يفقد البوصلة تماما نسبة لشدة الانفصام بين الماضي والحاضر، فبينما كانت هناك وحدة وقوة، فهنا انقسام وتشرذم. وبينما يتسم كقائد في ذاك الزمان بإنسانيته ونبله في الحرب كما في السلم، تنعدم في ساحات النزاعات الآنية كل معاني الإنسانية. تكاد الأرض ترتوي دما لتغرس من فوقها صور أشلاء الضحايا، والجرحى والأسرى تساء معاملتهم إمعانا في التعذيب، والمدارس الآمنة تصير إلى خراب، وهذا كله



لا يفقد الحساسية فحسب وإنما يفقد أي فرصة لبروز ذرة إنسانية. هي حالة أقرب إلى التشفي منها إلى حالة نزاع يؤمل حلها.



تبدو الصورة على درجة كبيرة من الوضوح الفاضح، بأن كل ما في الوطن العربي ماض إلى حافة هاوية لا متناهية على هذه الأرض المستثارة. وبالعودة إلى ساحة القلعة يمكن الإحساس بأرواح الضحايا هنا وهناك تتدانى مثل ذكريات وآمال تدخل ما بين رهافة العزف الموسيقي وقعقعات السلاح، مزج بين الحقيقة الماثلة والخيال المؤمل. حتى إذا ما أشرع باب لتلاقح الثقافات تداعت ظلال أشبه بالسحب الداكنة، وقد كانت مصر من قبل، قبلة الثقافات وساحتها. لا يلبث أن يخرج من تحت ذلك الظل، ظل القلعة العتيد المنعكسة عليه أضواء المسرح وأضواء القاهرة المدينة التي جبلت على الحركة والحياة، وهي تحاول جاهدة باحتفاليات قلعتها أن تؤكد أنها عادت سيرتها الأولى، وهيهات وهي تغالب الظن بأن حاضنتها ما زالت مصر المؤمنة.



حين استراق السمع لبعض الفعاليات في دهشة لا تنتهي، يسترجعك المشهد تارة أخرى ليعود إلى حطين المعركة الفاصلة التي تأخذنا إلى تلابيب «مملكة السماء». كم هي كبيرة تلك المراثي وهذه المآسي. فالمراثي ليست على انتصار تم نقشه على جدران التاريخ، وإنما على عظمة التاريخ نفسه بشخوصه وقادته وفرسانه. فما أحوجنا إلى إنسانية ذلك الزمان الذي لم يكن يعرف أية مواثيق دولية لحقوق الإنسان، ولكنه يدرك الإنسانية بالفطرة. ولم يعرف جيرة الحدود السياسية والوصولية ولكنه الآن فقط يعي أن تكون ثمة مدينة قريبة، ولكن غريب إدراكها وإنقاذها من المجازر.



نعم في الأمر دهشة، فكبت حالات الوضوح إحدى مغيبات الوعي ومظهر من مظاهر التعطيل الكلي للحواس التي نعاني منها الآن.



[email protected]