صحة الشمال عليلة

الثلاثاء - 30 أغسطس 2016

Tue - 30 Aug 2016

في مطلع الخمسينات الميلادية من القرن الماضي، أبرمت بلادنا اتفاقيات مع تجمع لعدة شركات نفط أمريكية أطلق عليها لاحقا اسم (التابلاين) TAPLINE وهو اختصار Trans Arabian Pipe Line



قامت هذه الشركة الوليدة بإنشاء خط الأنابيب الممتد من الساحل الشرقي مرورا بمنطقة الحدود الشمالية إلى أن يصل ميناء صيدا في لبنان بطول 1600 كلم.



نصت الاتفاقية على إنشاء مدن حديثة على امتداد هذا الخط كان من أبرزها رفحاء وعرعر وطريف بالإضافة إلى العديد من الهجر والقرى التي أصبحت موارد للمياه.



وما إن بدأ النفط بالتدفق عبر هذا الخط حتى رسم ملامح مرحلة جديدة، حيث ساهم هذا الحدث بتوطين السكان وخلق فرص عمل جديدة، كما تضمنت تلك العقود بناء المدارس والمستشفيات في تلك المدن والمحطات، ولم تمض عشرة أعوام حتى كان التحول مذهلا وسريعا وأصبحت تنمية حقيقية استقطبت رجالا من شتى مناطق المملكة استوطنوا الشمال جيلا بعد جيل.



وفي مواجهة مرحلة التوطين فإن البعض من أبناء تلك الأرض ظل وفيا لصحرائه ونمط معيشته الذي اعتاد، إلا أنهم رحبوا بتلك الخدمات المجانية.



نالت الخدمات الصحية الاهتمام الكبير ومع زيادة التوطين واتساع رقعة هذه المدن أنشأت الشركة ثلاثة مستشفيات في رفحاء وعرعر وطريف بعد إبرام عقود مع مستشفيات الجامعة الأمريكية في بيروت وأصبح في تلك المدن أطباء وطاقم تمريضي وفني من أمريكا ولبنان وفلسطين والأردن، كان مستشفى عرعر هو المرجع للعمليات المتقدمة وكانت عملية نقل المرضى والاهتمام بهم على مستوى عال من التنسيق، نجحت الإدارات التنفيذية لتلك المستشفيات في بناء جسور متينة للتواصل مع المجتمع المتحفظ، أقيمت العديد من الأنشطة الرياضية والثقافية وأصبح موظفو الشركة وأبناؤهم السعوديين يحظون بامتيازات إضافية مثل دخول المكتبة والمطاعم (الكانتين) ومشاهدة السينما.



مع تتابع السنين وزيادة عدد السكان وخلو المنطقة من الخدمات الصحية الحكومية نجحت (التابلاين) في ذلك الوقت في التخطيط والتطوير وكانت خدماتها الصحية مثار الإعجاب، حيث تمت توسعة المختبرات والطاقة الاستيعابية لها كما أن الطائرة الأسبوعية بين الشمال وبيروت تنقل عينات الدم للفحوصات المتقدمة بالإضافة إلى تبادل الخبرات والاستشارات الطبية مع مستشفى الجامعة الأمريكية الشهير في بيروت، نالت تلك الخدمات والتي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود إعجاب وامتنان المجتمع في تلك المدن الشمالية ويتذكر من عاصر تلك الأيام كيف أن الكثير من هؤلاء الغرباء أصبحوا أصدقاء للمجتمع، يتذكر نساء وأطفال ذلك الزمن الباهي، الممرضة الرائعة اللبنانية سلوى حداد التي عملت 30 عاما في مستشفى عرعر حتى إغلاقه وكانت بلسما شافيا لآلام وجراح المرضى وحظيت بصداقة متينة مع سيدات ذلك المجتمع، ويروى عنها العديد من قصص التفاني في العمل والنبل فتحت لها الدور والصدور.





في فترة لاحقة بدأت تصل الخدمات الصحية الحكومية، أنشئت المراكز الصحية والمستشفيات وتم ربطها بالمديرية العامة للشؤون الصحية بالمنطقة وتم تخصيص ميزانيات كبيرة لها، استبشر الأهالي بتلك المنشآت رغم تأخرها إلا أن المقارنة بين تلكما الحقبتين تكون دائما لصالح خدمات التابلاين الصحية التي توقفت تماما قبل اندلاع حرب الخليج الأولى في عام 1991 م



وإذا كنا منصفين فإن الخدمات الصحية الحكومية في العقود الثلاثة الماضية لم ترق لتطلعات الأهالي رغم توسعها واستيعابها لأبنائها للعمل في الإدارة، فقد غاب عنها التنظيم الإداري والتخطيط الذي يدرس حاجة المجتمع المتسارع في النمو.



ولم يتم الاستفادة من التجربة التي أفرزتها مستشفيات التابلاين في مد جسور التواصل والثقة مع المجتمع، بل أصبحت تلك المنشآت بمنأى عن هموم وتطلعات المجتمع، ولم تنجح في بناء جسور للتواصل والتثقيف الصحي مع الناس ولم تستطع حتى الدفاع عن نفسها في مواجهة الانتقادات الحادة والمتكررة التي تتعرض لها، من هنا تبلور انطباع راسخ لدى الناس أن تلك المستشفيات عليلة وغير قادرة على التشخيص والعلاج فتجدهم في كثير من الأحوال لا يطلبون استشارة طبية جيدة بل يبحثون عنها في مكان آخر، أما الحالات الطارئة فتجدهم ومنذ اللحظة التي يصاب بها ذووهم يبدؤون بخطوات نقل مريضهم إلى مكان آخر، وتلك معاناة أخرى كان بالإمكان تجنبها للسواد الأعظم من تلك الحالات.



لقد عاصرت أنا والعديد من أبناء الشمال الذين يعملون في المؤسسات الطبية في المدن الرئيسية ومنذ سنوات عديدة المئات من الحالات التي عانى أهلها من تبعات الفشل الذريع في المنظومة الصحية العلاجية والإدارية.



ورغم الجهود التي تقوم بها الإدارات المتعاقبة والتي كان على رأسها موظفون من أبناء المنطقة نفسها إلا أنهم (رغم جهودهم الملاحظة) غير قادرين على القيام بعمل ذي قيمة، وأصبحت هذه المستشفيات مكانا عابرا للنقل والإخلاء، إن التطور الذي حدث كان في آلية النقل والإخلاء حيث أصبحت الحاجة للاستجداء أقل من ذي قبل، إلا أنه لم يحدث ما يقنع المرضى بالبقاء وتلقي العلاج في مكانهم وبين ذويهم.



لقد كنت شاهدا على مدى 20 عاما لتلك الحالة وتطورها وكانت تنتابني مشاعر متناقضة، بين تذليل الصعاب والاتصال بالزملاء (لدرجة الإزعاج والإحراج) من أجل البحث عن سرير لجار أو عم أو خال، وبين رأي متناقض أن أشجعهم على البقاء في أماكنهم مع محاولة إقناعهم بعدم وجود فرق كبير خاصة في حالات الجلطات الدماغية وحوادث إصابات الرأس العنيفة.



في ظل أوضاع مثل هذه وفي غياب تام لمعالجة هذا الشرخ، فإن العدوى انتقلت للأطباء والمسؤولين أنفسهم الذين شجعوا أهل المرضى وذويهم بأن نقلهم هو أفضل الحلول، مما زاد في الالتباس. ولو أتيح لنا الاطلاع على بعض الإحصاءات، فإننا سنجد الكثير مما يثير الدهشة، فإذا أخذنا مدينتي عرعر ورفحاء على سبيل المثال فإنه يوجد سرير واحد لكل ألف مواطن (مثل اليابان تقريبا) بينما تجدها في العاصمة والتي يتم إخلاء المرضى إليها أربعة أسرة لكل عشرة آلاف مواطن، وهذا مؤشر واضح على خلل كبير في الإدارة والتخطيط.





وإذا وضعنا جانبا ما حدث في الماضي، ونحن على وعد التحول الوطني في القطاع الصحي 2030 وبعد موجة التفاؤل التي سادت المجتمع بتلك البرامج، فإننا أمام مرحلة مهمة للغاية، كما أن العصر الذي نعيشه وفي عالم الانترنت والتواصل الاجتماعي السريع جدا والقادر على رصد آلية عمل الوزارة ينتظر الإشارات الأولى للتغيير الحقيقي بفارغ الصبر. في الفترة الانتقالية يجب على التنفيذيين الجدد في وزارة الصحة ألا يفقدوا الاهتمام في المناطق الطرفية، يجب أن تحظى بالأهمية وربما الأولوية، فالخلل الذي تعانيه قد يكون من السهل إصلاحه وتطويره مقارنة بالمدن الرئيسية الكبرى، هذا لا يقلل من أهمية البرامج التي تم إعلانها ولا يعني حكما عليها أيضا.