سليمان الضحيان

وسطنا الثقافي ومعارك القولبة

الأربعاء - 17 أغسطس 2016

Wed - 17 Aug 2016

(القولبة) مصطلح أعني به وضع الخصم في قالَب محدد من خلال وصفه بوصف مختصر يثير مجرد ذكره لدى السامع كل صفات السوء والشر والقبح، وقد كانت وما زالت (القولبة) سلاحا يستخدمه الخصوم ضد بعضهم، ففي التاريخ الإسلامي نشبت معارك فكرية بين المذاهب الإسلامية، وكان سلاح القولبة أحد الأسلحة التي استعملت في تلك المعارك، فأهل الحديث أطلقوا ألقاب (المعطلة) و(أهل الأهواء)، و(القدرية) على خصومهم المعتزلة، والمعتزلة أطلقوا على أهل الحديث ألقاب (المجسمة)، و(الحشوية)، و(النابتة)، وأهل السنة أطلقوا على الشيعة لقب (الرافضة)، والشيعة أطلقوا على أهل السنة لقب (الناصبة).



وفي العصر الحديث ما زال سلاح (القولبة) حاضرا في المعارك التي تنشأ بين الخصوم الفكريين، فالقوميون في أوج قوتهم وسموا الإسلاميين بوصف (الرجعية)، و(التخلف)، وإيران ومناصروها يقولبون الثوار السوريين بـ(التكفيريين)، والناشطون الإسلاميون في الخليج وسوريا يصفون إيران ومناصريها بـ(الصفوية)، و(المجوس)، وماذا عن واقعنا الثقافي المحلي؟



غرَّد في تويتر أحد المثقفين الإسلاميين الذين لهم حضور كبير فيه بقوله: «يجلدوننا (يقصد المثقفين الليبراليين) بألفاظ يلوكونها بأفواه متورِّمة (أعداء الفرح)، (صنَّاع الوهم)، (ثقافة التخلف)، وهي ألفاظ جوفاء قيمتها ما يسيل منها من شهوة وانفلات»، فرد عليه آخر بقوله: «وتردون عليهم بـ (أعداء الفضيلة)، (صناع الرذيلة)، (ثقافة التغريب)، وألفاظكم جوفاء».



هذا الحوار القصير يختصر معركة (القولبة) التي تجري بين التيارات الفكرية في وسطنا الثقافي، ولا أبالغ إذا قلت: إن أغلب النقد الذي يوجهه أصحاب تيار فكري ما لأصحاب التيار المخالف لهم هو في حقيقته لا يعدو أن يكون قولبة التيار المخالف، فبالإضافة للأوصاف التي أوردتها في الحوار السابق، نجد قائمة طويلة من الصفات السلبية التي يقولب فيها كل تيار أصحاب التيار الآخر، فمن القوالب التي يضع الإسلاميون فيها خصومهم (أهل الفساد)، و(أهل الفجور)، و(أعداء كل ما هو إسلامي)، و(زوار السفارات)، و(أفراخ الغرب)، و(المتصهينون).



ومن القوالب التي يضع الليبراليون فيها خصومهم (إسلامويون)، و(متنطعون) و(دواعش)، و(إخوانجية)، و(متكسبون بالدين)، و(قروسطيون).



أي أن السجال الفكري بين التيارات تحول إلى مجرد معركة شرسة لإلغاء الخصم وشطبه من الخارطة الفكرية، وأهم أسلحتها (القولبة)، وقد ساهمت تلك القولبة التي تجري بين التيارات في ثلاثة أمور، الأمر الأول: الاستقطاب الحاد، فأصبح كل مثقف يجد نفسه ملزمًا بتبني موقف واضح مع تيار فكري في تلك المعركة، وأصبحت أصوات المثقفين الذين لا ينخرطون في تلك المعركة خافتة لا تُسمع وسط ضوضاء الاحتراب، وصخب الجماهير التي يروقها اشتعال حلبة الصراع.



الأمر الثاني: الحساسية المفرطة من النقد لدى التيارين، وهذه الحساسية تفرضها ظروف المعركة؛ لأن أي نقد - مهما كان حجمه - يوجه لأي تيار يُفسَّر على أنه انتصار للتيار الآخر أو تقرب منه.



والأمر الثالث: الذي ساهمت فيه تلك القولبة هو غياب النقد البنـَّاء لأطروحات الطرفين الفكرية، النقد المتصف بالموضوعية والرصانة والعلمية، مما أشاع جوا فكريا متوترا، وضحالة ثقافية مخيفة، وغيابا للتقاليد المعرفية الصارمة للنقد والبحث والإبداع.



وكان ضحية ذلك كله الأجيال الشابة المثقفة المتطلعة للعلم والمعرفة فخسرهم الفكر والمجتمع، تلك الأجيال الشابة التي دُفِعت للانخراط في الصراع، فتحولت إلى جنود تحارب في تلك المعارك المحتدمة بين الطرفين متبنية بسذاجة بالغة مقولات الطرفين عن بعضهما دون وعي، وكان من المفترض أن يتاح لتلك الأجيال الصاعدة جو علمي يتصف بالجدية والطرح العميق البناء القائم على تقاليد النقد العلمي الموضوعي مما يؤهل بعضهم ليكون يوما من الأيام عالما شرعيا واعيا بمتطلبات العصر، أو مفكرا عميق الرؤية غزير الإنتاج يفاخر بهم المجتمع.



[email protected]