محمد أحمد بابا

قلة من الناس تدلل أبقارها!

الاثنين - 15 أغسطس 2016

Mon - 15 Aug 2016

اكتفى القدماء بالحديث عما يملكون من حيوانات بالاهتمام والمفاخرة، لكنهم كانوا يولون قطعان أغنامهم وإبلهم الكثير من العناية والرعاية التي رأوها مناسبة لهذه الثروة الحيوانية، دون أن يكون هناك شبه بين رعايتهم لأبنائهم ودلالهم لهم وبين حيواناتهم مصدر رزقهم، لأنهم بطبيعتهم يعرفون فروقا في الحقوق بين حقوق الحيوان وحقوق الإنسان.



ورغم أن الخيل التي عقد بنواصيها الخير مثلت عند العرب في الماضي مجالا واسعا للإيحاء الشعري والمساهمة الرجولية والحماسة القتالية، إلا أنها كانت تحظى بنوعية خاصة من الدلال والحساسية في التعامل مع متطلباتها والحديث معها والمحافظة الشديدة على احتياجاتها، دون خلط بين نفسيات البنات والأبناء ومشاعر الأفرس والأمهار.



وفي هذه المرحلة الطيبة والخصبة لحيوانات الأمة العربية، في السابق كانت حيوانات العالم تعيش تحت حيف وظلم لا مثيل له سوى ما يحدث من طبقية وعنصرية وتفرقة لدى إنسانه وبشره، فلم يكن للغنم والبقر ولا حتى الخيول من العناية سوى الضرب والترويض والحبس والاستخدام القاسي والاستغلال الفظيع في التسلية والاقتتال الدموي في أجواء ظلمة داكنة ومناخ جاهلي.

وسبحان الله أن استيقظ في الغرب من يدعو لحقوق الحيوان بعد أن فطن أولئك لكثير من الممارسات المرفوضة تجاه الإنسان، اتفاقا مع فلسلفة البعض منهم بأن أصل الإنسان حيوان، وبحماية الأصل من هضم الحقوق تنتج أرضية لحماية الإنسان نفسه.



وقبل عقدين استخدمت إحدى شركات الأجبان أسلوبا معينا في الدعاية لمنتجها المصنوع من حليب الأبقار، لتأتي بتاريخ البقرة الحلوب التي أنتجت هذا الجبن الصافي المميز ذا الفائدة العظيمة والشكل الطري لتقول تلك الدعاية لنا ونحن صغار: «قلة من الناس تدلل أبقارها» مرفقة ذلك بمشاهد للبقرة وهي تخضع للاستحمام، وتقضي وقتا على شاطئ البحر، وتلبس نظارات شمسية، وتستخدم منشفة لتجفيف جسدها، وتستلقي لتتناول مشروبا حسب مزاجها، وكل ذلك مدعاة لأن يكون لبنها صافيا خالصا سائغا للشاربين.



وكنت أعتقد أن الأمر مبالغة لما فيه من التجانس بين ما يحق للإنسان وما يصلح للحيوان، لكن تقارير وثائقية عن حياة الأبقار في الاتحاد الأوروبي أثبتت أنني كنت مخطئا، فهم يصرفون أكثر من دولارين ونصف يوميا على البقرة الواحدة؛ دعما لإنتاجها من النسل واللبن والاكتناز الشحمي واللحمي، وبدت الأبقار عندهم مزهوة بهذا الحظ الذي لم يتسن لبشر يعيشون في دول كثيرة، ويقتاتون بأقل من نصف دولار في اليوم، بل إن علم الاتحاد الأوروبي الذي يحمل النجوم الدائرية المشعة لم يجد مكانا مناسبا له أجمل من ظهور الأبقار في اصطفاف رائع، وكأنه تلك العروض العسكرية التي تفاخر بها دولنا العربية في أعياد الاستقلال.



استقر في ذهني بأن للدلال أثرا بالغا في الإنتاج، وللاهتمام علاقة مميزة مع استمرار التدفق المالي حتى مع الأبقار التي لا تعي كثيرا مما نقول، لكن الحق بأن العناية الذاتية بالثروة الحية كالأبقار في أوروبا، والأسماك في سواحل أفريقيا الغربية، والدلافين في أستراليا، يوحي لنا بأننا تركنا العناية بالإنسان في حواضرنا العربية، فلم يقتصر ذلك على نظرة سيئة للعالم نحونا بأننا لا نملك أدنى شروط حقوق الإنسان المزعومة، بل تعدى هذا إلى أننا لم نعد نحسن ما برع فيه أسلافنا من عناية تخصصية بحيواناتهم وممتلكاتهم من الدماء الحية التي كانت ترافقهم حضرا وسفرا وتشغل بالهم نوما واستيقاظا.



قد يكون السبب ما رزقنا الله إياه من ثروات جامدة أو سائلة مكتشفة في باطن الأرض تمثلت في ذهب أسود سموه «النفط» فأشغلنا ذلك عن حيوانات هي في أمس الحاجة للرعاية، ونحن في أمس الحاجة لألبانها وأوبارها وأشعارها ولحومها، ولنا فيها جمال حين نريح وحين نسرح.



وبنظرة موغلة في البعد أجد بأن تلك الحيوانات نتيجة غضبها وسخطها وحزنها على إهمالها من قبلنا اختارت أن تموت وتتحلل في باطن الأرض لتصبح بعد سنين من التعفن والدفن ثروة بترولية سوداء تذكرنا رغم فوائدها بسواد أعمالنا تجاهها، وتثبت لنا بأنها - ربما - أكرم منا حية وميتة.



لو عدنا للشعور بحساسية الموقف الذي تعيشه الحيوانات في مجتمعاتنا ومحميات مشاريعنا الزراعية لتعرفنا عن كثب على مدى الخطورة الذي تكتنف تلك المخلوقات من جراء تعاملنا الفظ الغليظ معها، ليس لأننا أمة ليست لدينا رحمة بالحيوانات ولا لأن ديننا لا يأمرنا بأن نحسن الذبحة والقتلة ونسقي الكلب ونطعم الهرة، بل لأن بهرجة الثروات الأخرى التي لا تملك نفسا حية ولا كبدا رطبة وصفت لنا الحياة بشكل مختلف، وأبقتنا عاجزين عن تدليل أنفسنا، فكيف ندلل أبقارنا.



[email protected]