نعيمان عثمان البنيوية وأخواتها

مقابسات
مقابسات

السبت - 25 يونيو 2016

Sat - 25 Jun 2016

u062du0633u064au0646 u0628u0627u0641u0642u064au0647
حسين بافقيه
ملمح طريف في حركة الثقافة في مصر، ذلك الذي يظهر في عهود مختلفة من تاريخ الجامعة المصرية، أعني به «النزاع والتخاصم» بين قسم اللغة العربية وقسم اللغة الإنجليزية، والموضوع، حقا، طريف جدّا، وعسى أن تغور وراءه أسباب اجتماعية وثقافية واقتصادية، ولا سيما في العهد الملكي، وفي أثناء نضال المصريين المستعمر من أجل الاستقلال التام.

يغلب على المختلفين إلى أقسام اللغة العربية في كلية الآداب أو في دار العلوم أو الأزهر - أنهم يعتزون إلى جذور ريفية، فهم إما من الفلاحين أو الصعيد، حملهم حب العلم، وإعجابهم في الغالب بطه حسين إلى غشيان قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، وحملهم استظهار المتون، وقراءة كتب التعليقات والحواشي الصفراء إلى المعاهد الأزهرية، ثم الجامع الأزهر، أو دار العلوم، أما أبناء الطبقة «الناعمة» من الأعيان والمتحالفين مع السلطة، ممن يرتضخ كثير منهم، في بيوتهم وأنديتهم، اللسان الأعجمي، فقد آثر جمهرة منهم الاختلاف إلى قسم اللغة الإنجليزية، وإذا بنا حيال مجتمع علمي وثقافي ينزع منزعين، مهما اعتزى هؤلاء وأولئك إلى العنصر المصري، ولم نلبث أن وقفنا على ألوان من «النزاع والتخاصم» بين ثقافتين؛ إحداهما ثقافة البلاد، وهي الثقافة العربية، والأخرى ثقافة «المستعمر» والمجتمعين على فتات موائده، وآل هذا المنزع إلى الثقافة، فإذا بنا نمسك بضروب من المنافسة الطريفة بين قسم اللغة العربية وقسم اللغة الإنجليزية، بين الأساتذة، وبين الطلاب، حتى إذا انتهى عصر الملكية، وصارت مصر جمهورية، وأصبح الجميع «إخوانا متحابين»، لم ينتهِ أثر تلك المنافسة، ورأينا الخصومة تشتد بين هذا الأستاذ وذاك، وخاصة إذا مَسَّ ذلك واقع الثقافة في مصر، وكأنما أراد المختصون باللغة العربية وآدابها أن يصبح الأدب العربي المعاصر، حمًى لهم غير مستباح، وأن يقصر أساتذة الأدب الإنجليزي جهدهم على شكسبير وقبيلته، أو كأنما أراد هؤلاء ألا يتحدث تلاميذ سيبويه وابن مالك في شأن من شؤون الثقافة الغربية والآداب الأوروبية، فما لهم ولهذا اللون من الدراسة، فيكفيهم أن يقرؤوا المتنبي، ويقرأ «خصومهم» شكسبير! على أن هذا التنافس بلغ غايته حين نشب السجال بين محمد مندور وحوارييه، من جهة، ورشاد رشدي – أستاذ الأدب الإنجليزي – وتلاميذه، في الجهة المقابلة، وانطوى ذلك السجال الذي بلغ درجة عنيفة في الخصومة، على تباين علمي يخفي في طياته نزاعا أيديولوجيّا، وبينما دعا رشاد رشدي إلى متَّجه «الفن للفن»، آثر مندور وصحبه متَّجه «الفن للحياة».

على أن «النزاع والتخاصم» لم يلبثا أن سكنا، فهؤلاء وأولئك أصابهم من قسوة السياسة ما أنساهم ما كانوا فيه، لكننا، نمسك، إلى يوم الناس هذا، بأثارة من ذلك «التنافس» بين القسمين العتيدين، وما إن تنبري خصومة حتى تعود إلى ذاكرتنا إحن الأمس، ظهر ذلك في غير خصومة، آخرها تلك الحرب الضروس التي شنها جابر عصفور – أستاذ الأدب العربي – على عبدالعزيز حمودة – أستاذ الأدب الإنجليزي – ونحن إن تأملنا «ثلاثية» حمودة النقدية، فكأنما جلس صاحب «المرايا المحدبة»، مجلس الحَكَم، فجعل يصحح للمفتونين بالبنيوية وما إليها، من أساتذة أقسام اللغة العربية، المذاهب والأفكار، وأنشأ يقول، في غير موضع، من ثلاثيته: إنكم لم تفهموا أصول تلك المناهج، ولم تعرفوها حق المعرفة، فكان خصام ليس هنا محل بيانه.

سأترك مصر، الآن، وأقصد إلى غايتي من هذه المقدمة، وأبحث عن شيء من «النزاع والتخاصم» بين قسم اللغة العربية وقسم اللغة الإنجليزية، هنا في المملكة. والحق أنه ليس ضروريّا، أن يستنسخ السعوديون مشكلات المصريين، لكنهم لم يسلموا من غبارها، مهما اختلفت أحوال السياسة والمجتمع والثقافة، ونحن نلمس أن الجيل المؤسس من أساتذة الجامعات، هنا، كأنما كانوا أدنى إلى روح الجماعة، منهم إلى روح الاختلاف، فمنصور الحازمي، ومحمد الشامخ، وأحمد البدلي، وأحمد الضبيب، في قسم اللغة العربية، بجامعة الملك سعود، في العقد الأول من تأسيسها، وعزت خطاب ومنصور الخريجي، في قسم اللغة الإنجليزية، في الجامعة نفسها، لا نعرف أن هناك خصومة نشبت بينهم، بل إننا نراهم، وكأنهم ينتسبون إلى قسم واحد، وهموم أدبية واحدة، وأنت إذا كتبت عن واحد منهم، فسيأخذك القلم، إلى كل المجموعة، فلم يكن بين القوم خلاف، ولم يكن بينهم تنافس، إلا ما يمليه الجد والاجتهاد.

لكننا نقرأ في كتاب «حكاية الحداثة» للدكتور عبدالله الغذامي – الأستاذ في قسم اللغة العربية – كلمات أزرى فيهن بالدكتور سعد البازعي – أستاذ الأدب الإنجليزي – يقول الغذامي: إن البازعي لم يعرف البنيوية ولا ما بعد البنيوية حين اختلف إلى الجامعات الأمريكية، وذهب وجاء، وهو لا يعرف عنهما شيئًا، وهو المختص في الأدب الإنجليزي، وعدَّ الغذامي ذلك عيبًا ما كان للبازعي أن يقع فيه! وأغلب الظن أن هذا الحادث إنما يطوي في أعماقه «خصومة» بين أستاذ الأدب العربي وأستاذ الأدب الإنجليزي، فالبازعي كان قد أجلس نفسه – قبل عبدالعزيز حمودة – مجلس الحَكَم الذي يصحح لأستاذ اللغة العربية فهمه لتلك القضايا النقدية التي نشأت في الغرب ونمت وماتت، وأستاذ اللغة العربية يأخذ على منافسه أنه لم يعرف تلك المناهج حين قصد الغرب.

لكن الغذامي حين أفصح عن اسم سعد البازعي سكت عن اسم آخر لأستاذ في قسم اللغة الإنجليزية، هو، لا شك، يعرفه كل المعرفة، أعني الدكتور نعيمان عثمان، وسكت عن مقالة لها خطرها، كان قد صحح فيها نعيمان «أوهاما» وقع فيها الغذامي، حين أخرج كتابه «الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية».

نشر الدكتور نعيمان عثمان مقالته المهمة «جواد فاره، عربة أصيلة» (الرياض، 1406هـ)، وأنشأ يتحدث، بلغة متهكمة عما حسبه الغذامي «اختراعا» نقديّا جديدا، ودون أن نشغل أنفسنا بالتفاصيل، فأحسب أن مقالة نعيمان كانت «خطرا» على الغذامي، فنعيمان لم يكن، كغيره من الناقدين، وإنما نحن بإزاء رجل صنعته هذه المناهج النقدية الجديدة، وهو مختص بها، وعالم باختلاف ما بينها، فإذا قال نعيمان: إن تحليل الغذامي لشعر حمزة شحاته يناقض البنيوية، فلا ينبغي أن نمر بهذا الكلام لاعبين، وإذا تحدث نعيمان عن الشبه التام بين غلاف كتاب «الخطيئة والتكفير»، وغلاف كتاب «تشريح النقد» للناقد الكندي نورثروب فراي، فقوله هو الفصل، وهو الحَكَم الذي ترضى حكومته.

لكن للدكتور نعيمان عثمان صلة قديمة بنقضية دريدا، أراد أن يذكر الدكتور الغذامي بها، وكأنما أراد أن يهدِّئ من غلوائه، ويقول له: مهلا أيها الزميل، فما أنشأت تشغل الناس به، هو مما عرفناه في قسم اللغة الإنجليزية قديما، عرفه الأساتذة وعرفه الطلاب في زمن، من الحق أن تعرفه، فالتقويضية – أو النقضية أو التفكيكية – أو ما تفردت بتسميته «التشريحية»، كانت جامعة الملك سعود قد وقفت عليه من منبع أصيل من منابعه، وذلك حين وقفنا عليها عند الدكتورة جايتري سبيفاك – منظِّرة دراسات ما بعد الاستعمار، والمتخصصة بنقضية دريدا، ومترجمة كتابه ذائع الصيت «Grammatology» وصاحبة المقدمة المذكورة عنه - «التي تعتبر أفضل مدخل لهذا المؤلف»، ويمضي الدكتور نعيمان، في مقاله المهم، فيذكر أن الدكتورة سبيفاك كانت قد ألقت «عدة محاضرات في هذا الموضوع في جامعة الملك سعود عندما دعتها واستضافتها الجامعة عام 1979»! وكأنما أراد نعيمان أن يقول للغذامي: إن ما كان «مجهولا» عندك، كان «معلوما» عندنا، والحق أن هذا الحادث «المجهول» في تاريخ النقد الحداثي «الألسني» في المملكة، يجعل عهد جامعة الملك سعود بـ «تقويضية» دريدا – وإن شئت النقضية أو التفكيكية أو التشريحية – قديما! ويفصل نعيمان في موضوع هذه «التشريحية الغذامية» وآصرتها بفيلسوفها دريدا، فينطق بحكمه فيقول: وتشريحية دريدا هذه ليست هي التشريحية التي يتبناها الدكتور الغذامي، بل يفضل «تشريحية» بارت المستخلصة من كتابه S/Z، وهذه النتيجة سينتهي إليها جابر عصفور، بعد سنوات طوال، حين وقف على «تشريحية» الغذامي.

لم أنتهِ، بعد، من نعيمان عثمان، بل إنني لم أبدأ أصلا!

وذلك أن بوسعنا أن نعتدَّ الدكتور نعيمان عثمان، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الملك سعود، من أقدم الأساتذة السعوديين – إن لم يكن أقدمهم – اتصالا بالمناهج الحداثية، ولقد وقعت، في أثناء تقليبي لعدد من أعداد مجلة كلية الآداب في الجامعة، يرقى تاريخه إلى سنة 1397هـ=1977م، على تلخيص باللسان العربي لأطروحة الدكتوراه التي أنجزها نعيمان باللسان الإنجليزي في نظرية المسرح، من جامعة وسكنسن، وموضوعها «المسرحية: تحليل لتركيبها البنائي».

كانت نيتي حين يممتُ وجهي صوب مجلة كلية الآداب في تلك المدة أن أقف على أي بحث أو مقال يميط اللثام عن نشأة النقد الحداثي «اللساني» في المملكة، والحق أنني كنت أترقب أن أقرأ شيئا من ذلك لشكري عياد أو أحمد كمال زكي، وقد كانا أستاذين في تلك المدة، ثم إذا بي أقف على هذا الملخص، فقلتُ: لا بأس، لأقرأه، لأعرف موضوع نعيمان عثمان، وما كنت لأحسب أنني سأظفر، حينئذ، بأصول قديمة لهذه المناهج، عند أستاذ سعودي، ولا سيما «شكلانية» فلاديمير بروب، و»البنيوية» و»الأسلوبية»، و»نظريات السرد».

يقفنا ملخَّص الرسالة التي أعدَّها نعيمان عثمان على فصولها وأقسامها؛ راجع في الفصل الأول مشكلات التصنيف في الأدب، واشتمل الفصل الثاني على «مسح لنظريات النقد المسرحي المهمة»، أما الفصل الثالث ففيه «دراسة فاحصة للطرق المختلفة من التحليل؛ الشكلية (Formalism)، والبنيوية (Structralism)، وعلم السرد (Narratology)، والنماذج الأساسية (Grchetype)، ويقول: إن الفصلين الرابع والخامس هما أساس الرسالة، «ففي الفصل الرابع تطرح نظرية بنائية (Structual Theory) للمسرح»، أما الفصل الخامس فـ «تطبق النظرية، بعد تطويرها، على مسرحيتين لصمويل بيكت».

لا أعرف أن الرسالة طبِعت، ولا أعرف، كذلك، أنها تُرجمت، لكن الذي أعرفه أن الدكتور نعيمان عثمان لم يكن الحَكَم الذي تُرضى حكومته، فحسب، في بنيوية الغذامي وتشريحيته، وإنما كان عالما عارفا، منذ عام 1397هـ =1977م، بالبنيوية والشكلانية وبقية أفراد الأسرة الحداثية!



[email protected]