المجتمع المكي بأعين الغرباء

السبت - 30 أبريل 2016

Sat - 30 Apr 2016

إن مما يترك أعظم الأثر في وجدان الغريب الآتي من أقاصي الأرض هو ما يقدمه أهل البلاد المستضيفة من ترحاب وبشاشة وطيب معشر. وإنه لمن سمات المجتمعات المتعددة الأعراق أنها دائما ما تتفاضل على غيرها بقبول الآخر الغريب دون شروط، وهي إذ تحتضنهم وتُذهِب عن كاهلهم عناء الأسفار ووحشة الغربة، فإنها تقدم صورة للتسامح وملمحا من ملامح البيئة المضيافة، وهكذا كانت أم القرى دائما وأبدا، موئلا للتسامح وواحة للتعايش ووطنا لمن لا وطن له. وتلك معان نلمسها في الكثير من مدونات الرحالة الأجانب والمسلمين على مدار القرون الماضية.

فها هو الرحالة المؤرخ المغربي الشهير ابن بطوطة يبدي إعجابه بما عاينه خلال زياراته إلى مكة المكرمة في القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي فيصف أهل مكة بقوله «ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة، يبدأ فيها بإطعام الفقراء والمنقطعين المجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم يطعمهم» ثم يمضي ليظهر إعجابه بمظهرهم وبثيابهم الدائمة النظافة، الناصعة البياض وكثرة استخدامهم للطيب والسواك.

قدم الرحالة الهندي رفيع الدين المراد آبادي إلى الحجاز لدواعي الحج والزيارة في 1201-1202هـ (1787-1788م) ثم ساهم في أدبيات الرحلات الحجازية بكتاب باللغة الفارسية سمي «مشاهدات حرمين» ويحكي أهم انطباعاته عن المجتمع المكي في ذلك الزمان بقوله «يتحلون بالأخلاق الفاضلة، وبحسن المعاملة، فكبار القوم هنا والعلماء يعاملون المسافرين والغرباء معاملة طيبة، تتصف بالتواضع الجم، وحسن الخلق، كأنهم لم يسمعوا عن الغرور والكبر، مع أنهم من العلماء الكبار، ومن أهل الفضل والشرف».

وفي أحد كتب الرحلات الحجازية النادرة لمتعلم هندي آخر يدعى حافظ أحمد حسن وهو كتاب «الحج إلى الكعبة» والذي رافق أمير التونك الهندي (النوّاب) إلى الحج ودون رحلته في 1871م، يقدم حافظ أحمد لمحة يسيرة عن المجتمع المكي بقوله «رغم ما يغلب على مظهر أهل مكة من الغلظة وصعوبة المراس، إلا أن خلف هذا المظهر تتجلى دماثة الأخلاق وكرم الطباع وحسن الضيافة».

أما الرحالة السويسري الشهير يوهان بركهارت الذي مكث في مكة ستة أشهر في فترة حكم محمد علي باشا ابتداء من يوليو 1814م فقد أغرق في الثناء على أهل مكة، رغم قسوته في مواضع أخرى، بقوله «الابتسامة لا تفارق شفاههم في كل مكان، ميالون للمزاح ولكنهم يحترمون بعضهم، يكرمون الغريب ويحسنون ضيافته، ولديهم اعتداد بالنفس».

ولا يختلف المستشرق الهولندي كرستيان سنوك هرخرونيه الذي تسلل إلى مكة متخذا اسم «عبدالغفار» في 1884-1885م وبقي فيها حتى أجلي منها في أغسطس 1885م عن بركهارت في انطباعه عن المكيين الذين عرفهم حق المعرفة بقوله «ويجب أن أؤكد هنا أن الذي يرى أهل مكة خارج موسم الحج، يجدهم عذبي المعشر، مولعين بالمرح، كرماء إلى درجة التبذير، يكرسون جهودهم لحياتهم الاجتماعية، وأن الذي يراقب حياتهم عن كثب يجد بجانب الخشونة والفظاظة التي عند بعضهم، أناسا نبلاء المعشر، كريمي الصفات، أتقياء ذوي ورع وصلاح».

وللمؤرخ المصري لبيب البتنوني الذي زار مكة المكرمة سنة 1327هـ - 1909م برفقة الخديوي عباس حلمي الثاني وصف بديع لنسيج المجتمع المكي المتعدد الأعراق «ومن اختلاط هذه الأجناس بعضهم ببعض بالمصاهرة أو المعاشرة صار سواد أهل مكة خليطا في خَلقهم وخُلقهم، فتراهم قد جمعوا إلى طباعهم وداعة الأناضولي وعظمة التركي واستكانة الجاوي وكبرياء الفارسي ولين المصري وصلابة الشركسي وسكون الصيني وحدة المغربي وبساطة الهندي...»

إنها المدرسة المكية الرائدة في التعايش والتسامح وقبول الآخر دون النظر إلى عرقه وجنسه ومذهبه، فإن النبيل فيها هو من يحسن الجوار، والشريف فيها من يعطف على الفقير ويحسن إلى المسكين ويؤوي الغريب، والوجيه فيها من يسعى في حوائج الناس ويمشي في قضاء شؤونهم دون منة ولا مصلحة. فتراتبية المجتمع المكي هنا ليست فيما توارثه الناس من ألقاب خلعها على أسلافهم السلطان، بل التفاضل في خدمة البيت وزواره وأهله، وتعظيم المكان.