الرحيل .. وأفول مرحلة ثقافية عربية

السبت - 19 مارس 2016

Sat - 19 Mar 2016

نشهد منذ سنوات رحيلا متتابعا للكبار من مفكري ومثقفي حقبة عربية كان لهم دور في تأسيس بناء فكري لمرحلة ثقافية عربية ظهرت معالمها منذ أواخر الستينات وبداية السبعينات ونعيش آخر مراحلها، كانت أقوى مراحل وهجها الثقافي والمعرفي ما بين عقدي الثمانينات والتسعينات، وتميزت بملامح فكرية وعلمية محددة، وهموم سيطرت على مثقفي هذه الحقبة، حيث ظهرت معالجاتهم النقدية بروح جديدة، وأوليات أخذت حيزا كبيرا من المؤلفات التي جاءت على صورة مشاريع ثقافية كبيرة، متسلحة بوعي جديد استفاد من هزيمة 1967م، وأبرز أخطاء مرحلة الشعارات والانقلابات العسكرية، مع محاولات جادة لكشف ملامح الخلل المبكر منذ عصر النهضة الأولى، وعلى الرغم من اختلاف التوجهات الفكرية والخلفية الأيدولوجية والأماكن التي يعيشون فيها فإن عناوين القضايا المطروحة في الكتب والندوات والمؤتمرات تبدو واضحة المعالم.

قبل سنوات قريبة رحلت عن عالمنا أسماء ثقيلة في المشهد الثقافي العربي كفؤاد زكريا، ومحمد عابد الجابري، وعبدالوهاب المسيري وخلدون النقيب ومحمد أركون وقبل يومين رحل جورج طرابيشي وقبله بأيام قليلة رحل طه جابر العلواني وحسن الترابي .. هذا الجيل العربي الذي يضم أسماء كبيرة أخرى كعبدالله العروي وفهمي جدعان وصادق جلال العظم وطه عبدالرحمن وحسن حنفي وهشام جعيط وعلي حرب وهشام شرابي وعادل ضاهر وبرهان غليون .. وغيرهم من الأسماء اللامعة التي تركت أثرا حقيقيا في الساحة العربية مهما حاول البعض هجاء المثقف وادعاء هامشيته وعدم شعبيته.

كان هناك شعور حقيقي بالهزيمة والفشل النهضوي العربي، وانطلقت منه كل المحاولات الفكرية الجادة، عبر أسئلة وخطوط عريضة لإشكالات الحالة العربية، تميزت بمحاولة تجاوز أخطاء النهضة العلمية الأولى، عبر ترجمات كثيرة، ومؤلفات في نقد التراث السياسي والديني والفقهي، وحوار مع قضايا الحداثة والثقافة الغربية المهيمنة، ومحاولات عميقة للبحث عن أسباب تعثر التنمية وفشل العصرنة في مجتمعاتنا العربية ومن المسؤول!؟ مع تحييد المواجهات السياسية المباشرة، وممارسة النقد السياسي والديني والاجتماعي عبر مؤلفات تعالج الأفكار أكثر من الانشغال بمواجهة هذا النظام أو تلك الدولة.

وتزامنت بدايات هذه الحقبة الثقافية العربية مع ظهور مد وصحوة دينية في مختلف المجتمعات العربية، مما فرض مراجعات متعددة لإشكالات الإسلام السياسي، وظهور العنف، وفي هذه المرحلة تضخم الخطاب الإسلامي واكتسح الكتاب الديني كل مفاصل الحياة الشعبية في المجتمع العربي، وكانت حقبة الثمانينات والتسعينات ربيعا للحركات الإسلامية، مع انتشار واسع للخطاب السلفي العلمي، وتأثيره بعد مرحلة النفط على أطياف عديدة من الأنشطة والجماعات الإسلامية في العالم، في زمن تراجعات سياسية عربية مستمرة في داخل الدولة العربية، وفشل خارجي يتعمق في مواجهة إسرائيل.

في هذه الظروف والأجواء المحبطة كانت هذه المشاريع الثقافية تتشكل بمحاولات فردية لمثقفين كبار .. تنير الطريق المعرفي لجيلي، ومن حسن الحظ أني عايشت كل تفاصيل هذه المرحلة، ومتابعة تطوراتها وانفتاحا على مختلف هذه الخطابات، وعايشت ظهور هذه المشاريع ولحظات انتظار الكتب والبحث عنها. فلكل مفكر وكتاب قصة شخصية من لحظة اكتشافه إلى لحظة فهم خطابه ومشروعه الفكري، مع صعوبات متنوعة كان فيها الحصار الثقافي كبيرا في المجتمع، ومرت سنوات كانت هي الأشد قحطا ثقافيا.. مع عداء خطاب الصحوة للثقافة والمثقفين بصورة عامة، وكان عداء خطاب الصحوة والخطاب السلفي كبيرا حتى لأصحاب المشاريع الإسلامية الفكرية التي حاولت عقلنة الفكر الديني، وكانت تحذر من مشاريعهم الفكرية المشبوهة في نظرها، وكثير من الكتب لا يسمح بدخولها رقابيا، وحتى الملاحق الثقافية في صحفنا كانت هزيلة، بهمومها الأدبية وغياب الهموم الفكرية والتعريف بمثل هذه المشاريع، ولم تنشأ مواجهات فكرية من النوع العميق في إشكالات الفكر العربي والإسلامي.

في هذه الظروف الصعبة ظهرت هذه المشاريع الفكرية العربية، وفي كل مرة يأتي خبر رحيل واحد منهم، أشعر بتأنيب ضمير داخلي شديد منذ سنوات بضرورة الكتابة عن كل واحد منهم كرد جميل، وتثمين لقيمة ما قدموه لجيلي في عمر مبكر. ونتيجة لكثير من متغيرات الزمن العربي وتحولات العولمة في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر ملامح حقبة جديدة بهموم وقضايا مختلفة، وبحاجة إلى معالجات من نوع آخر .. تطرح أسئلة المرحلة التي كانت أحد معالهما البارزة أحداث الربيع العربي، فالواقع تغير كثيرا وإن كان يبدو للبعض بأنه مجرد امتداد لماض عربي هزيل، لكن مع الأجيال الجديدة وظهور واقع اتصالي جديد قلب كل الموازين والمعادلات القديمة، فإن صورة التحديات اختلفت بصورة كبيرة، وعلى الرغم من ضخامة الجهود للسيطرة على الواقع وتجميد الزمن من الدولة العربية فإن مقومات الفرد اليوم داخل المجتمع العربي لم تعد كما هي خلال القرن الماضي، وهذا ما يزيد من غموض المستقبل ويجعله مفتوحا على كل الأسئلة!