وطن تنتحب سياراته!

الجمعة - 22 يناير 2016

Fri - 22 Jan 2016

ذاكرتي التي كانت تمسح أحلامي خانتني خلال السنوات الأخيرة، وظلت تكرر حلما غريبا لأكثر من 17 مرة. والمفارقة أنه حلم داخل حلم، حتى شككت أنها تقلد قنوات الدراما والأفلام التي ما تنفك تكرر الفيلم حتى يتحول إلى أبيض وأسود. وقبل أن أروي تفاصيل حلمي أشترط عليكم أن تفسروه تفسيرا مأنوسا، وألا تروه كالمسؤولين «كابوسا».

رأيت فيما يرى الغائم أو النائم أني أوقفت سيارتي جوار شجرة سدر عملاقة، وحين تعمقت في نومي رأيتها تتراجع إلى الوراء، ثم انطلقت ماسحات الزجاج بسرعة، فأدركت أن سيارتي (تبكي)، اقتربت منها مسافة أربع عرعرات واختبأت خلف جذع الخامسة، وإذا بثلاث بغال تأتي من نواح مختلفة، وسيارتي لمّا تزل تبكي، فدارت حولها البغال الثلاث كأنها تتأملها، وحين رفعت إحدى البغال رأسها، هدأ نشيج السيارة، فقالت: «من أين أتيتن»؟ قالت البغلة: بل أنت الغريبة؟ ودار الصمت برهة، ثم قالت البغلة الأولى: أما وأنك ضخمة لامعة، وملساء ناصعة، تسيرين على أقدام مستديرة، وعيناك في الظلام منيرة، فماذا يبكيك؟ وكيف لنا أن نسليك؟ قالت السيارة في سرها: كيف أجاري هذه المجنونة في السجع؟ ثم التفتت إليها وقالت: يا صاحبات الدروب، وآمنات الركوب، لكل غالب مغلوب، ولم يغلبني أحد، حتى أتيت هذا البلد، فما تحركت عجلاتي منذ نعومة عدادي، إلا على طرقات كالحرير، تتكيف مع الحر والزمهرير، فجاءني صانعي يوما وقال: يا فتاة الدروب، وأميرة الركوب، وآسرة القلوب، لقد تقدم لك وبعض أخواتك تاجر سعودي، وأوفى الكيل والميزان، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وقد وعدنا كما استوصيناه بكن خيرا.

أولى بركات اللقاء، حين وصلنا الميناء، أعطب السائقون منا ثلاثا، ثم أوصلونا إلى مقرنا في ساحة شاسعة، وأرض ترابية واسعة، تلفحنا الحصباء والرطوبة من كل صوب، وتلسع الشمس كبابيتنا والجنوب، ومن جدة حملتنا الناقلات، تسابق الجمسات والحافلات، ومن اللطائف كانت وجهتي الطائف، وبعض صاحباتي نُقلن إلى مدن أخرى ومصايف، بعضهن بلغت معرض ربها، وبعضهن في الطريق قضت نحبها، وألقوا بها في مقبرة (التشليح)، حين تعذر البناء والتصليح!

قالت البغلة الثانية: أتموتون مثلنا؟ فأجابت السيارة ودمعة حمراء من زيت ناقل التروس ترتطم بالأرض: آآآه، موتكن أرحم من موتنا، فعلى الطريق يتسابق سائقو الناقلات، ونحن على ظهورهن مكتفات، ثم فجأة تنقلب الشاحنة، وتلك نهاية طاحنة، ولا مكان لنا إلا التشاليح، إذ يستأصلون أعضاءنا، ويبيعونها لآخرين، وحين ينتهون يلقون بنا في الحنادس، تحت ظلم المكابس، وقد نجوت ولله الحمد، ورزقني الله بسائق يهاب السرعة، ولا تستهويه الفزعة، غير أني أسمع وأرى، وأعلم الكثير من الفواجع، فصرت من الناشطات في الدفاع عن حقوق السيارات، لكن من يسمع صوتي، ومن يهمه موتي؟ وقد كذب التجار على صانعينا، ولم يدافع عن حقوقنا بائعونا، وكل يوم تضج طرقات السعودية بنحيب عجلاتنا، وتهشم أوصالنا. والفاجعة الفاجعة، حين تقع الواقعة. إن أهل هذه البلاد لا يهتمون لموت أبنائهم، فكيف بنا نحن المطايا المأمورات، والصابرات غير المأجورات؟

أوفرنا حظا من يشتريها المرور، فلا حاجة لعجلاتها أن تدور، إلا في النادر، وقد كفاه نجم وساهر، وتخلى عنا بغير ما يتظاهر، ولا ندري أنجدها من المرور في إهماله، أم من عبث السائق في جواله؟ أم من وزارة النقل، حين تصمم طرقا بلا عقل، أم من بعض مهندسي الأمانة، ومفاسدهم الرنانة؟ فجلُّ الشوارع قطعت أوصالها المشاريع، وغيبت ملاستها التراقيع، فحفرة غائرة، وأغطية تبرز كأنها ثائرة، وأخاديد جائرة، وحتى المنعطفات ينحفش فيها الإسفلت كأنه ثوب الفقير!

ولا أعلم كيف يستلم المهندسون تلك الشوارع، دون حساب ولا اشتراط رادع، هذا وأنا أخبركن فقط عن الشوارع العامة، ولو تحدثت عن الأحياء لكانت الطامة! لكن لا بأس أن أخبركن عن تفنن القوم في صنع المطبات! فهذا مطب للوجاهة، وذاك للنقاهة، وثالث لمواساة أب في دهس طفله، وآخر لمد ماسورة ماء، أو سلك كهرباء، ولا عزاء لا عزاء، لقد تحلحلت صواميلنا، وزادت غرابيلنا، ومن السعوديين يا ويلنا!

قالت البغلة: بي شوق إلى عهد الفاروق، دعينا نُعد إلى البصرة، حيث الطرق الممهدة، والشوارع المعبدة، فلا يعثر فيها إنسان، ولا يكبو على ملاستها حصان، ثم مدت يدها لتربت على «كبوت» السيارة فانطلق صوت «البوري».. أفقت من نومتي الداخلية، وإذا بسيارتي جواري، قفزت داخلها، على صوت أغنية «تنشد عن الحال؟»، فانطلق صوت منبه الجوال، وكنت أظنه اتصال مسؤول يعتذر، لا أدري من ضبطه على نغمة «الحفائر كلها مشتاقة لك»! فاستفقت من نومتي الخارجية، وجعلت عنوان محاضرتي الأولى «استراتيجية الحفر والعقوم، لإيقاظ السائق من النوم».