عبدالله المزهر

الحاضر، فكرة مؤذية!

الأربعاء - 23 مايو 2018

Wed - 23 May 2018

أحاول مجاهدة الفكرة التي تدور في ذهني حين أتذكر شخصيات تاريخية قرأت عنها كثيرا وأحببت بعضها، وتمنيت أني عشت في عصر آخرين وتحسرت لأني لم أكن صديقا مقربا من أشخاص التقيتهم على صفحات كتب التاريخ.

وآخرون احتقرتهم ولعنتهم بعدد صفحات الكتب التي ورد ذكرهم فيها، وحقدت عليهم إيمانا واحتسابا، كنت مهووسا بالدعاء ولعن الذين قال لي التاريخ إنهم يقبعون في مزبلته.

الفكرة المحبطة التي أدافعها هي أن كل هذا التاريخ ليس حقيقيا، وأني لو ركبت آلة الزمن وعدت إلى زمن أصدقائي الذين عرفتني عليهم كتب التاريخ لربما سيفاجئني أن الذين كنت أظنهم أبطالا هم مجرد قتلة ولصوص توفرت لديهم القوة فبطشوا وعاثوا في الأرض فسادا ثم كتبوا تاريخا كما تشتهي أنفسهم، وكانوا على صفحاته ما لم يكونوه في واقعهم، كتبوه لكي أقع في الفخ وأحبهم بعد مئات السنين.

وربما أجد كثيرا من أولئك الذين أفنيت عمري ألعنهم أناسا بسطاء رائعين محبين للخير وللحياة والعدل والسلام، ولكنهم كانوا أضعف من كتابة سطر واحد في كتابة التاريخ يلمح إلى ماهيتهم.

كل شيء يمكن أن يكون مزورا، وكثير من الأفكار والتصورات التي رسمناها في عقولنا عن أولئك القابعين في دهاليز التاريخ قد تكون مجرد «خيال مؤلف».

ومن المؤكد أن «المؤلف» في ذلك الوقت لم يكن يعاني في تزييف الواقع، وجعل الأحداث مجرد حكايات وقصص تروى كما يشتهي المنتصر.

لم يكن يعاني لأن التوثيق صعب، والخبر ينتقل من بلاد إلى أخرى في سنوات، ويصل وقد زيد عليه وأخذ منه كما يفعل الناس مع «الأخبار» في كل عصر ومكان.

اليوم ـ وهذه فكرة تمر في أذهان الكثيرين ـ نشاهد ونرى بأعيننا أحداثا ثم نسمع عكسها في اليوم التالي.

وسائل الإعلام - وهي المؤرخ في هذا العصر ـ تتعامل مع الناس على أن لهم ذاكرة ذبابة، وأنهم ينسون كل شيء، حتى تفاصيل حياتهم الخاصة. ولذلك تؤلف لهم أحداثا جديدة بديلة عن الأحداث التي عاشوها بأنفسهم، ثم ترغمهم على تصديق الواقع البديل من خلال تكراره دون كلل ولا ملل.

وعلى أي حال..

يقولون ـ لا أعلم من هم ـ بأن معرفة التاريخ مهمة لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، لكن الواقع يقول إن فهم الحاضر أصبح مهما لأنه يكشف زيف التاريخ، وهذه هي الفكرة المؤذية التي أحاول مجاهدتها والتخلص منها لكنها تقفز أمامي كلما شاهدت أو قرأت او سمعت وسيلة إعلامية.

المطمئن أن لذة البحث عن الحقيقة تكمن في البحث نفسه، وليس في الوصول إلى الحقيقة، لأن الحقيقة الكاملة لن تعرف قبل النفخ في الصور، حينها سيعرف الناس كل شيء عن تاريخ كل شيء، بكل التفصيلات التي طمسها المنتصرون وهم يكتبون صفحات التاريخ.

agrni@